عبودية التكبير والاستفتاح في الصلاة

عبودية التكبير

وأُمر بأن يستقبل القبلة (بيته الحرام) بوجهه، ويستقبل الله عز وجل بقلبه، لينسلخ مما كان فيه من التولي والإعراض، ثم قام بين يديه مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيِّده عليه، وألقى بيديه مسلّماً مستسلماً ناكس الرأس، خاشع القلب مُطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه، وطرفة عين، لا يمنة ولا يسرة، خاشع قد توجه بقلبه كلِّه إليه.

وأقبل بكليته عليه، ثم كبَّره بالتعظيم والإجلال وواطأ قلبه لسانه في التكبير فكان الله أكبر في قلبه من كلِّ شيء، وصدَّق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله تعالى يشغله عنه، فإنه إذا كان في قلبه شيء يشتغل به عن الله دلّ على أن ذلك الشيء أكبر عنده من الله فإنه إذا اشتغل عن الله بغيره، كان ما اشتغل به هو أهم عنده من الله، وكان قوله “الله أكبر” بلسانه دون قلبه؛ لأن قلبه مقبل على غير الله، معظما له، مجلاً، فإذا ما أطاع اللسان القلب في التكبير، أخرجه من لبس رداء التكبّر المنافي للعبودية، ومنعه من التفات قلبه إلى غير الله، إذا كان الله عنده وفي قلبه أكبر من كل شيء فمنعه حقّ قوله: الله أكبر والقيام بعبودية التكبير من هاتين الآفتين، اللتين هُما من أعظم الحُجب بينه وبين الله تعالى.

عبودية الاستفتاح

فإذا قال: “سبحانك اللهم وبحمدك” وأثنى على الله تعالى بما هو أهله، فقد خرج بذلك عن الغفلة وأهلها، فإن الغفلة حجاب بينه وبين الله.

وأتى بالتحية والثناء الذي يُخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيما له وتمهيدا، وكان ذلك تمجيدا ومقدمة بين يدي حاجته.

فكان في الثناء من آداب العبودية، وتعظيم المعبود ما يستجلب به إقباله عليه، ورضاه عنه، وإسعافه بفضله حوائجه.

حال العبد في القراءة والاستعاذة

فإذا شرع في القراءة قدَّم أمامها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فإنه أحرص ما يكون على خُذلان العبد في مثل هذا المقام الذي هو أشرف مقامات العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته، فهو أحرص شيء على صرفه عنه، وانتفاعه دونه بالبدن والقلب، فإن عجز عن اقتطاعه وتعطيله عنه بالبدن اقتطع قلبه وعطَّله، وألقى فيه الوساوس ليشغله بذلك عن القيام بحق العبودية بين يدي الرب تبارك وتعالى، فأمر العبد بالاستعاذة بالله منه ليسلم له مقامه بين يدي ربه وليحي قلبه، ويستنير بما يتدبره ويتفهمه من كلام الله سيِّده الذي هو سبب حياة قلبه، ونعيمه وفلاحه، فالشيطان أحرص شيء على اقتطاع قلبه عن مقصود التلاوة.

ولما علم الله سبحانه وتعالى حَسَد العدو للعبد، وتفرّغه له، وعلم عجز العبد عنه، أمره بأن يستعيذ به سبحانه، ويلتجئ إليه في صرفه عنه، فيكتفي بالاستعاذة من مؤونة محاربته ومقاومته، وكأنه قيل له: لا طاقة لك بهذا العدو، فاستعذ بي أعيذك منه، واستجر بي أجيرك منه، وأكفيكه وأمنعك منه.

_______________________________

المصدر: كتاب أسرار الصلاة لابن القيم.

مواضيع ذات صلة