إعداد فريق التحرير
تعد الصلاة من العبادات التي لها منزلة ومكانة كبرى في الشريعة الإسلامية فهي العبادة التي إذا قُبلت قُبل ما سواها، وإن رُدت رُد ما سواها من الأعمال مهما كانت منزلتها. ومما دل عليه الشرع أن من علامات فلاح المؤمن في الدنيا هو تمكنه من الخشوع في الصلاة وحضور قلبه. يقول الله عز وجل:
قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون. (المؤمنون: 1-2)
وقال الإمام ابن القيم (رحمه الله) عند حديثه عن حضور القلب والخشوع في الصلاة ومعلقاً على ماورد عن في الحديث الشريف الذي رواه الحارث الأشعري (رضي الله عنه) عن الالتفات في الصلاة، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “وإن الله أمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت.” (رواه الترمذي)
الالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان:
الأول: التفات القلب عن الله عز وجل إلى غير الله تعالى.
الثاني: التفات البصر وكلاهما منهي عنه، ولا يزال الله مقبلاً على عبده ما دام العبد مقبلاً على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره أعرض الله تعالى عنه. وقد سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التفات الرجل في صلاته فقال: “اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد”. (رواه البخاري)
وفي أثر يقول الله تعالى: “إلى خير مني، إلى خير مني؟” ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه أو مثل رجل قد استدعاه السلطان فأوقفه بين يديه وأقبل يناديه ويخاطبه، وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يميناً وشمالاً وقد انصرف قلبه عن السلطان فلا يفهم ما يخاطبه به، لأن قلبه ليس حاضراً معه، فما ظن هذا الرجل أن يفعل به السلطان؟ أفليس أقل المراتب في حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتاً مبعداً قد سقط من عينيه؟ فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله تعالى في صلاته الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه فامتلأ قلبه من هيبته، وذلت عنقه له، واستحى من ربه تعالى أن يقبل على غيره أو يلتفت عنه. وبين صلاتيهما كما قال حسان عطية: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وأن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مقبل على الله عز وجل والآخر ساه غافل.
فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله وبينه حجاب لم يكن إقبالاً ولا تقريباً، فما الظن بالخالق عز وجل؟ وإذا أقبل على الخالق عز وجل وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس والنفس مشغوفة بها ملأى منها فكيف يكون ذلك إقبالاً وقد ألهته الوساوس والأفكار وذهبت به كل مذهب؟
والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقام وأقربه وأغيظه للشيطان وأشده عليه، فهو يحرص ويجتهد أن لا يقيمه فيه، بل لا يزال به يعده ويمنيه وينسيه ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهون عليه شأن الصلاة فيتهاون بها فيتركها. فإن عجز عن ذلك منه وعصاه العبد وقام في ذلك المقام أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكره في الصلاة ما لم يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي شئ والحاجة وأيس منها فيذكره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها ويأخذه عن الله عز وجل، فيقوم فيها بلا قلب، فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجل الحاضر بقلبه في صلاته، فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله لم تخف عنه بالصلاة، فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقابله.
فهذا إذا انصرف منها وجد خفة من نفسه، وأحس بأثقال قد وضعت عنه، فوجد نشاطاً وراحة وروحاً، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها، لأنها قرة عينيه ونعيم روحه وجنة قلبه ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها فيستريح بها لا منها، فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يا بلال أرحنا بالصلاة”. (رواه أحمد وصححه الألباني) ولم يقل أرحنا منها.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “جعلت قرة عيني في الصلاة” فمن جعلت قرة عينه في الصلاة كيف تقر عينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدونها، وكيف يطيق الصبر عنها؟ فصلاة هذا الحاضر بقلبه الذي قرة عينه في الصلاة هي التي تصعد ولها نور وبرهان، حتى يستقبل بها الرحمن عز وجل فتقولحفظك الله تعالى كما حفظتني، وأما صلاة المفرط المضيع لحقوقها وحدودها وخشوعها، فإنها تلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها وتقول ضيعك الله كما ضيعتني.
وقد روي في حديث مرفوع رواه بكر بن بشر عن سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يرفعه أنه قال “ما من مؤمن يتم الوضوء إلى أمكانه ثم يقوم إلى الصلاة في وقتها فيؤديها لله عز وجل لم ينقص من وقتها وركوعها وسجودها ومعالمها شيئاً إلا رفعت له إلى الله عز وجل بيضاء مسفرة يستضيء بنورها ما بين الخافقين حتى ينتهي بها إلى الرحمن عز وجل، ومن قام إلى الصلاة فلم يكمل وضوءها واخرها عن وقتها واسترق ركوعها وسجودها ومعالمها رفعت عنه سوداء مظلمة ثم لا تجاوز شعر رأسه تقول: ضيعك الله كما ضيعتني، ضيعك كما ضيعتني”. (والحديث ضعيف)
فالصلاة المقبولة والعمل المقبول أن يصلي العبد صلاة تليق بربه عز وجل، فإذا كانت صلاة تصلح لربه تبارك وتعالى وتليق به كانت مقبولة.
______________________________________________
المصدر:منقول بتصرف من كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب لابن القيم.