البكاء في الصلاة، فضله .. وصلته بالخشوع
واحرص يا أخي على التدبّر تدبّر ما تقرأ ومن مقتضى التدبّر أن توازن بين حالك وحال من يمرّ بك ذكرهم في آيات القرآن من أهل الجنة، لترى مدى تقصيرك.
وكذلك الموازنة بين حالك وحال من يمر بك ذكرهم من أهل النار، لتتحرى إن كان فيك شيء من خصالهم لتراجع نفسك ولتدرك عظيم حاجتك لمغفرة الله وعفوه سبحانه.
وقد يحملك ذلك -وهو من الخشوع- على البكاء.
فالبكاء خشيةً من الله منزلة عالية قال (صلى الله عليه وسلم): في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظلّ إلاّ ظله … “ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه” (رواه البخاري، ومسلم).
وقال (صلى الله عليه وسلم): “لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم.” (رواه الترمذي).
ولقد كان (صلى الله عليه وسلم) يبكي في الصلاة؛ فعن عبد الله بن الشِّخِّير قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء” (رواه أبو داوود)، وفي رواية كأزيز الرحى، وأزيز الرحى صوتها وجرجرتها، وأزيز المرجل: غليانه، أي كغليان القدر.
وجاء في وصف أبي بكر: أنه كان إذا صلّى وقرأ القرآن غلبه البكاء حتى إن الناس لا يسمعون صوته ولا قراءته لرقة قلبه وخشوعه؛ فقد روي أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما اشتدّ مرضه قال: “مروا أبا بكر فليصلّ بالناس” قالت عائشة: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه، وفي رواية: إنه رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلّي بالناس، ولم يُسمع الناس من البكاء. قال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالناس»، فعادت، فعاد، ثم قال في الثالثة: «مروا أبا بكر فليصلّ بالناس، فإنكن صواحب يوسف” (رواه البخاري ومسلم).
صلاة النافلة .. والخشوع
يقول (صلى الله عليه وسلم): “أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة” (رواه البخاري ومسلم).
فعليك يا أخي إذا صليت النافلة من غير الرواتب كصلاة الضحى وقيام الليل أو النافلة من الرواتب في منزلك أن تختار مكاناً في البيت بعيداً عن الضجيج والصوارف والشواغل، وتخلو فيه، وتؤدي هذه النافلة وتأخذ بالأسباب الموصلة إلى الخشوع، فقد يكون هذا الجو محققاً لك الصفاء النفسي، والإشراق الروحي، والتألق الذهني .. فتذكر الله في هذه الخلوة فتفيض عيناك.
ذلك أن هذه الخلوة لا تتاح للمصلّي عندما يكون في جماعة، فقد يتشوش المصلّي إذا وقف بجانبه إنسان لا يكفّ عن الحركة .. أو كان إلى جانبه إنسان تفوح منه روائح العرق المؤذية، أو روائح الدخان، أو الثوم أو البصل أو رائحة الطعام الزخم، فيقطعه ذلك عن الخشوع.
وربما كان من حكم ترغيب المرء في أن يصلي النوافل في بيته أن يتاح له هذا الجوّ من الخلوة والصفاء الذي يحقق له الخشوع، وهناك حكم أخرى كثيرة لهذا الأمر النبوي الكريم. فللصلاة في البيت فوائد، وللصلاة المكتوبة في المسجد مع الجماعة فوائد وحكم لا تخفى.
وقبيح بالمرء أن يتظاهر بالخشوع أمام الناس، ثم إذا صلّى وحيداً تعجل في الصلاة ونقرها نقر الديك.
بل إن كثيراً من الصالحين كانوا -إذا كانوا في سفر وأرادوا أن يصلّوا- يخفون صلاتهم النافلة عن الناس خوفاً من الرياء، ذكر ابن أبي حاتم عن محمد بن أعين وكان صاحب ابن المبارك في الأسفار، وكان كريماً عليه؛ قال: كان ذات ليلة ونحن في غزاة الروم ذهب ليضع رأسه ليريني أنه ينام. فقلت أنا برمحي في يدي قبضت عليه ووضعت رأسي على الرمح كأني أنام كذلك. قال: فظن أني قد نمت، فقام فأخذ في صلاته، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر وأنا أرمقه. فلما طلع الفجر جاء فأيقظني وظن أني نائم وقال: يا محمد. فقلت: إني لم أنم. قال: فلما سمعها مني، ما رأيته بعد ذلك يكلّمني ولا ينبسط إليّ في شيء من غزاته كلها، كأنه لم يعجبه ذاك مني لما فطنت له من العمل. فلم أزل أعرفها فيه حتى مات. ولم أر رجلاً قطّ أسرَّ بالخير منه (الجرح و التعديل: لابن أبي حاتم 1/ 266).
الخشوع والشيطان:
لقد أمرنا الله بأن نحذر الشيطان قال تعالى: “يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ.” (سورة الأعراف- الآية 27).
ونهانا أن نتبع خطواته فقال عز من قائل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” (سورة النور- الآية 21).
ومن مَكره وكيده للإنسان أنه يحاول أن يصرفه عن الخشوع في الصلاة الذي هو سبب الفلاح، كما قرر الله تبارك وتعالى؛ فيعمد إلى الوسوسة ويحاول أن يحول بين المرء وبين الصلاة والقراءة؛ يلبّسها عليه. فإذا حصل شيء من ذلك فليستعذ العبد بالله.
عن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي؛ يلبّسها عليّ. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ الله منه واتفل على يسارك ثلاثاً” قال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني (رواه مسلم).
فقد يلبس الشيطان على المرء في القراءة ويشكّكه في الصلاة حتى يصرفه عن الخشوع فليجأ المسلم عند ذلك إلى الله. وقد يعمد الشيطان إلى إدخال الشكّ في وضوئه فيوسوس له بأنه انتقض وضوؤه، فيبقى في حيرة: أيقطع الصلاة ليتوضأ أم يمضي في صلاته؟
الخشوع المزوَّر:
هناك بعض المتصوفة ومن يقلّدهم من الجهلة يأتون بحركات وهم في الصلاة يدّعون فيها الخشوع، كأن يضرب أحدهم الأرض برجله ويصيح بصوت عالٍ جداً مدّعياً أن حالاً اعتراه. وبعضهم يضطرب. وهذا لم يؤثر عن سيّد الخاشعين ولا عن الصحابة المرْضيين الطيبين. وكذلك البكاء العالي والنشيج الذي يفعله كثير من الناس في الصلاة في رمضان. كل هذا ليس بالخشوع الذي نتحدث عنه ونتواصى به.
وجوب الخشوع:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) ويدل على وجوب الخشوع فيها أيضاً قوله تعالى: “قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ” إلى قوله: “أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” (سورة المؤمنون- الآيات 1: 11). أخبر سبحانه أن هؤلا هم الذين يرثون فردوس الجنة، وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم، وقد دلَّ هذا على وجوب هذه الخصال؛ إذ لو كان فيها ما هو مستحبّ لكانت جنة الفردوس تورث بدونها، لأن الجنة تُنال بفعل الواجبات دون المستحبات، ولهذا لم يذكر في هذه الخصال إلا ما هو واجب” (مجموع فتاوى ابن تيمية 22/ 554).
______________________________________
المصدر: كتاب الخشوع في الصلاة للشيخ محمد بن لطفي الصباغ.