الاستنجاء هو إزالة ما خرج من السبيلين بماء طهور أو حجر طاهر مباح منق.
الاستنجاء لغة: يطلق الاستنجاء في اللغة على عدة معان ومنها ما ذكره ابن أبي الفتح في “المطلع” (ص/23): “الاستنجاء هو إزالة النَّجْو وهو العذرة عند الجوهري، وقيل هو من النَّجْوَة وهي ما ارتفع من الأرض كأنه يطلبها ليجلس تحتها، قاله ابن قتيبة. وقيل لارتفاعهم وتجافيهم عن الأرض، وقيل هو من النَّجْو وهو القطع يقال نجوت الشجرة وأنجيتُها واستنجيتُها إذا قطعتُها فكأنه قطع الأذى عنه باستعمال الماء”.
وأقرب المعاني للمعنى الاصطلاحي الذي ذكره الماتن هو المعنى الأول.
- قوله: (إزالة) أولى من قول: (هو زوال)؛ لأنه لابد من فاعل فلا يزول بقايا الخارج وأثره بنفسه.
- قوله: (ما خرج من السبيلين) ظاهره أنه يجب الاستنجاء من كل خارج من السبيلين سواء أكان الخارج معتادا كالبول والغائط، أو نادرا كالدود والحصى. أو يقال: ظاهره يشمل ما كان طاهرًا كالمني، والريح، والولد العاري عن الدم، والحصى، وما كان نجسًا، والنجس قسمان ملوِّث كالعذرة وغير ملوَّث كالدود ونحو ذلك وسيأتي بيان أن هذا العموم غير مراد عند قول الماتن: (ويجب الاستنجاء لكل خارج إلا الطاهر والنجس الذي لم يلوِّث المحل).
- قوله: (من السبيلين) أي القبل والدبر الأصليين.
قال موفق الدين في “المغني” (1/ 106): “وإن انسد المخرج المعتاد وانفتح آخر، لم يجزه الاستجمار فيه؛ لأنه غير السبيل المعتاد وحكي عن بعض أصحابنا أنه يجزئه؛ لأنه صار معتادًا. ولنا، أن هذا نادر بالنسبة إلى سائر الناس فلم تثبت فيه أحكام الفرج، فإنه لا ينقض الوضوء مسه، ولا يجب بالإيلاج فيه حد ولا مهر ولا غسل، ولا غير ذلك من الأحكام، فأشبه سائر البدن”.
- قوله (بماء طهور) أخرج الماء غير الطاهر والنجس فلا يجوز الاستنجاء بهما، وسبق بيان أن الراجح أن الماء الطاهر يزيل الخبث فيجوز الاستنجاء به ما لم يخرج عن إطلاقه.
- قوله: (أو حجر طاهر مباح منق) اشترط في الحجر الذي يستنجي أو يستجمر به ثلاثة أشياء:
1 – أن يكون طاهرًا فلا يجوز بالنجس، والدليل على ذلك ما رواه عبد الله -رضي الله عنه- قال: “أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت رَوْثَةً فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الرَّوْثَةَ. وقال: “هذا ركس”. (رواه البخاري)، وفي رواية أنها كانت رَوْثَة حمار وكما هو مقرر أن إزالة النجاسة لا تكون بالنجاسة.
2 – أن يكون مباحا فلا يكون مغصوبا أو مسروقا، وكما قدمنا أن هذا من باب المحرم لغيره فيأثم للغصب أو السرقة وتزول حكم النجاسة؛ لأن المقصود هو زوالها وقد حصل وهو اختيار تقي الدين.
3 – أن يكون منقيا أي مزيلا للخارج، فلا يجزئ الاستجمار بالأملس كالزجاج، ولا بالشيء الرخو -أي الهش اللين كالروث-، لعدم حصول المقصود منهما.
تنبيه:
ظاهر كلام الماتن أنه لا يجوز الاستنجاء بغير الحجر وهي رواية عن الإمام أحمد وهي من المفردات، ولكن الماتن عقب بما يدل على جواز الاستنجاء بغير الحجر فقال: (فالإنقاء بالحجر ونحوه) وهذه الرواية هي الصحيحة في المذهب وهي ما عليه جماهير الأصحاب من أنه يجوز الاستجمار بكل طاهر ينقي، كالحجر والخشب والخرق.
فالإنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء ..
علامة الإنقاء أن لا يبقى في المحل شيء يزيله الحجر، بحيث يخرج الآخر نقيًا. قال الرحيباني في (مطالب أولي النهى 1/ 76): “والإنقاء بحجر ونحوه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء والأثر نجس على الصحيح من المذهب، يعفى عنه في محله لمشقة الاحتراز منه”، ولفعله ما أُمر به، فإذا عجز المكلف عن إزالة أثر النجاسة فإن الحرج مرفوع، فيكفيه ما فعل من الاستنجاء ولا يضره هذا الأثر، وإن كان هذا الأثر يزول بنحو الملح والصابون.
ولا يجزئ أقل من ثلاث مسحات تعم كل مسحة المحل ..
الراجح أنه لا يجوز الاقتصار على أقل من ثلاث مسحات لما روي عن سلمان (رضي الله عنه) مرفوعًا: “لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار” (رواه مسلم)، ويقوم مقامهم حجر واحد له ثلاث شعب. فإن لم يحصل بهن الإنقاء زاد حتى يحصل الإنقاء والقطع على وتر مستحب لما روي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) مرفوعا: “من استجمر فليوتر” (رواه البخاري ومسلم)، والجمهور على الاستحباب عملا بالزيادة التي رواها أصحاب السنن: “ومن فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج”، ولكن هذه الزيادة لا تثبت.
قوله: “تعم كل مسحة المحل.” قال المرداوي في (الإنصاف 1/ 112): “قال القاضي وغيره: المستحب أن يمر الحجر الأول من مقدم صفحته اليمنى إلى مؤخرها، ثم يديره على اليسرى حتى يرجع به إلى الموضع الذي بدأ منه. ثم يمر الثاني من مقدم صفحته اليسرى كذلك. ثم يمر الثالث على المَسْرُبَةِ والصفحتين. فيستوعب المحل في كل مرة…” ثم قال: “لو أفرد كل جهة بحجر، لم يجزه على الصحيح من المذهب … وقيل: يجزئ”.
والقول الثاني هو الصحيح، فهيئة المسح لا يجب منها شيء لعدم الدليل ولأنها تختلف بحسب مقدار الخارج، فالواجب الإنقاء بالثلاثة فما زاد، على أي هيئة كان المسح.
والإنقاء بالماء عود خشونة المحل كما كان وظنه كاف ..
قال ابن قاسم في “حاشية الروض المربع” (1/ 144): (أي كما كان قبل خروج الخارج، لزوال لزوجة النجاسة وآثارها).
مسألة – يكفي ظنه في عودة خشونة المحل كما كان للحكم بالإنقاء بالماء.
وقال ابن قاسم أيضا: “ويكفي في زوال النجاسة غلبة الظن، جزم به جماعة، لأن اعتبار اليقين هنا حرج، وهو منتف شرعا، ويسترخي قاضي الحاجة قليلا فلا يضم شرج مقعدته لئلا يبقى شيء”.
ويسن الاستنجاء بالحجر ونحوه ثم بالماء فإن عكس كره ويجزئ أحدهما والماء أفضل ..
قال موفق الدين في (المغني 1/ 101): “قال أحمد: إن جمعهما فهو أحب إلي؛ لأن عائشة قالت: مرن أزواجكن أن يتبعن الحجارة الماء من أثر الغائط والبول؛ فإني أستحييهم، كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. إحتج به أحمد ورواه سعيد؛ ولأن الحجر يزيل عين النجاسة فلا تصيبها يده، ثم يأتي بالماء فيطهر المحل، فيكون أبلغ في التنظيف وأحسن”.
وأما بالنسبة للأحاديث والآثار الواردة في الجمع بين الحجر والماء فلم يصح شيء منها فحديث الباب لفظه عند الترمذي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: “مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يَسْتَطِيبُوا بِالْمَاءِ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَانَ يَفْعَلُهُ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، والحديث بهذا اللفظ صححه الألباني.
وأما العلة التي ذكرها الموفق وغيره فلا شك أنه إن تيسر الأمران معا فيبدأ بالحجر ونحوه ثم يتبعه الماء فهو أبلغ في التنظيف وأحسن، وفيه أيضا تنزيه اليد عن الرائحة الكريهة.
يكره الاستنجاء بالماء ثم بالحجر ونحوه.
قال البهوتي في (كشاف القناع 1/ 66): “فإن عكس بأن بدأ بالماء وثنى بالحجر كره له ذلك نصًا لأنه لا فائدة فيه إلا التقذير”.
وهذه الكراهة إنما تتحقق بالحجر ونحوه مما يقذر المحل، وأما ما لا يقذره كالورق والقماش فلا كراهة هنا.
يجزئ الاستنجاء بالحجر ونحوه وحده، أو بالماء وحده.
قال إبراهيم بن مفلح في (المبدع 1/ 68): أما الماء، فلما روى أنس قال: “كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا خرج لحاجته، أحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء فيستنجي به” (متفق عليه) … وأما الأحجار، فلقوله (عليه السلام): في حديث جابر: “إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فَلْيَسْتَطِبْ بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه” (رواه أحمد، وأبو داود).
- وهذا التعميم الذي في عبارة الماتن مخصص بألا يعدو الخارج موضع العادة وقد ذكره الماتن فيما بعد وسيأتي كلامه.
الاستنجاء بالماء أفضل من الاستنجاء بالحجر ونحوه.
هذا هو الصحيح في المذهب وما عليه جماهير الأصحاب، وهو معلل بأمور منها:
1- لأنه أبلغ في التنظيف ويطهر المحل ويزيل الأثر. وروى أبو داود من حديث أبي هريرة مرفوعا: نزلت هذه الآية في أهل قباء: “فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا…” قال: (كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية)، والحديث صححه الألباني والثناء عليهم من الله عز وجل لاستنجائهم بالماء يدل على تفضيله على الاستجمار بالحجر الذي كان يفعله باقي الصحابة، وما ذُكِرَ من التعليل بأنه أبلغ في التنظيف ويطهر المحل يؤكد ذلك.
2- أن الأصل في إزالة النجاسة هو الماء؛ فكان القياس على سائر البدن يقتضي ألا بجزيء إلا الماء، وإنما جاز الاستجمار بالحجر ونحوه رخصة على خلاف الأصل، فإذا استعمل الماء كان أفضل لموافقته الأصل، وما ذُكِرَ من مباشرة اليد للنجاسة إنما هو لغرض صحيح وهو الإزالة كما في سائر المواضع.
قال تقي الدين في (شرح العمدة 1/ 154) بعد أن ذكر نحوا مما سبق: “فإن لم يكره الحجر فلا أقل من أن يكون مفضولا وما نقل عن بعض الصحابة من إنكار الماء فهو -والله أعلم- إنكار على من يستعمله معتقدًا لوجوبه، ولا يرى الأحجار مجزئة؛ لأنهم شاهدوا من الناس محافظة على الماء لم يكن في أول الإسلام فخافوا التعمق في الدين كما قد يبتلى به بعض الناس”.
ويكره استقبال القبلة واستدبارها في الاستنجاء ..
الأول- لاحظ أننا نتكلم عن الاستنجاء الذي هو إزالة الأذى لا عن قضاء الحاجة الذي هو نفس خروج الأذى.
الثاني- أطلق الماتن القول بالكراهة بالنسبة للمكان، والقول الصحيح في المذهب أن هذا مقيد بالفضاء لا البنيان، قال المرداوي في (الإنصاف 1/ 102): “يكره استقبالها في فضاء باستنجاء واستجمار على الصحيح من المذهب وعليه الأصحاب، وقيل: لا يكره. ذكره في الرعاية. قلت: ويتوجه التحريم.”، والإطلاق الذي في كلام الماتن أولى فالتفريق بين الفضاء والبناء غير سديد ويعطل الأحاديث ويجعلها خاصة بالمشاهد المباشر فقط، وذلك لأن من يقضي حاجته أو يستنجي في الفضاء يكون غير مستقبل للقبلة حقيقة لوجود تلال وجبال وبينان بينه وبين القبلة كما أن النبي (صلى الله عليه وسلم) غضب وأنكر على من تفل في مسجده تجاه القبلة وهذا داخل بناء.
الثالث – أنه سوى بين الاستقبال والاستدبار في الحكم وظاهر كلام الأصحاب عدم الكراهة، قال البهوتي في (كشاف القناع 1/ 63): “ويكره استقبال القبلة في فضاء باستنجاء أو استجمار” تشريفًا لها وظاهر كلامه كغيره لا يكره استدبارها إذن.
_________________________
المصدر: كتاب التحرير شرح الدليل – كتاب الطهارة لأبو المنذر المنياوي.