كل متفحص في مجتمعاتنا يجد كيف غدا الشذوذ غالباً في أفراد المجتمع سواء أكان في المعتقد، أو الأخلاق والسلوك، أو المعاملات وما أشبه ذلك، حتى أضحت هذه القضية موضوع اهتمام وتركيز شديد من علماء الاجتماع، وهاجس مورق لمؤسسات الأمن في البلد مما ألجأهم للدراسة والبحث عن سبل من شأنها الحد من هذا الشذوذ، وما دروا أن المسلمين يوم أن كانوا ملتزمين بهدي الله وشرعه ما كانوا بحاجة إلى مثل هذه المؤسسات كما كان يحتاجها غيرهم الذين يتخبطون في ظلام الضلال، وظلم الكفر والإلحاد.
ولقد كانوا يجدون علاج مثل هذه الظواهر في تلك المحاضن الربانية، والمنارات الروحية التي هي المساجد، إذ كان المسجد لهم بمثابة دار هداية وإرشاد للقلوب، ومرتع استقامة وإصلاح للعيوب، ومكان تأديب وتأدية لأصحاب الحقوق حتى لمن لا يؤمن بالله – عز وجل -، ولذلك كانوا يلجئون إليه حين ظهور هذا الأمر في بعضهم.
بل كان المسلم إذا وجد من نفسه شيئاً من هذا لا يلجأ إلا إلى المسجد، حيث يتعرض لربه يدعوه حتى يرفع عنه ما يعانيه، وإثم ما وقع فيه، وهذه أمثلة رائعة، ونماذج ساطعة؛ مما كان عليه المسجد في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعهد الخلفاء الراشدين.
موطن هداية:
إذ كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحتجز فيه الضال، ويخيم فيه للوفد عليه؛ رجاء أن يهتدي بسماع القرآن، أو عند مشاهدته لتلك النفوس الخاشعة، فتضفي على روحه مشاعر الرضا والطمأنينة، فينقاد فؤاده لهذا الدين، وتهفو نفسه للانطواء تحت سقف الإسلام، فقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال: أنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- وفد ثقيف في المسجد، وبنى لهم فيه الخيام يرون الناس حين يصلون، ويسمعون القرآن، فمكث الوفد يختلفون إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يدعوهم إلى الإسلام فأسلموا، قال الإمام الماوردي: “وإن رُجي إسلامهم عند سماع القرآن جاز إنزالهم فيه” (الحاوي الكبير 14/329).
وفيه كان يربط الأسير حتى يقضى فيه أو يسلم يقول أبو هريرة – رضي الله عنه -: بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – خيلاً قِبَلَ نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: “أطلقوا ثمامة”، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله – صلى الله عليه وسلم -“.
قال صاحب الفتح معلقاً: “فلا يجوز للمسلم أن يأذن فيه إلا لمصلحة من سماع قرآن، أو رجاء إسلام، أو إصلاح شيء ونحو ذلك، فأما لمجرد الأكل واللبث والاستراحة فلا” (فتح الباري لابن رجب 3/279).
المسجد محراب للتوبة:
وكان أحدهم إذا ألـمَّ بذنب، أو اقترف خطيئة؛ قصد المسجد شاكياً تفريطه إلى الله، راجياً منه صفحه وعفوه ورضاه مما جنته يداه، وساورته به خباياه، وقصة أبو لبابة بن المنذر أخو بني عمرو بن عوف شاهدة ومؤكدة على ذلك، فقد طلب يهود بني قريظة من الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يرسله إليهم ليستشيروه في أمرهم، فأرسله الرسول – صلى الله عليه وسلم -، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء، وأقبل الصبيان يبكون في وجهه؛ فرقَّ لهم، وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح، قال: أبو لبابة فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني حتى يتوب الله على مما صنعت، وأعاهد الله أن لا أطأ بني قريظة أبداً، ولا أُرى في بلد خنت الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – فيه أبد (رواه أحمد).
قال ابن هشام: وأنزل الله فيه لا تخونوا “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ” (الأنفال: 27). قال ابن هشام: أقام مرتبطاً ست ليال تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله حتى يتؤضأ ويصلي، ثم يرتبط حتى نزلت توبته في قوله – تعالى -: “وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” (التوبة: 102).
وذكر ابن إسحاق أن الله أنزل توبته على رسوله – صلى الله عليه وسلم – من آخر الليل وهو في بيت أم سلمة فجعل يبتسم، فسألته أم سلمة فأخبرها بتوبة الله على أبي لبابة، فاستأذنته أن تبشره فأذن لها، فخرجت فبشرته فثار الناس إليه يبشرونه، وأرادوا أن يحلوه من رباطه فقال: والله لا يحلني منه إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فلما خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى صلاة الفجر حله من رباطه – رضي الله عنه – وأرضاه. (البداية والنهاية 4/120-121).
المسجد محبس للتأديب وتأدية الحقوق:
فأما الأول فمن قبيل ما صنعه النبي – صلى الله عليه وسلم – مع الجني الذي أراد أن يقطع صلاته، والقصة عند البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة – أو كلمة نحوها – ليقطع علي الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ” (رواه البخاري).
ومن قبيل الثاني ما رواه بهز عن أبيه عن جده أن النبي – صلى الله عليه وسلم – “حبس رجلا في تهمة، ثم خلى عنه”(رواه الترمذي وحسنه الألباني)، قال محمد ضياء الرحمن الأعظمي: والمقصود بالسجن الشرعي ليس الحبس في مكان ضيق، ولكنه تعويق الشخص، ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان ذلك في بيت، أم في المسجد أم في غيرهما.
وهكذا عرفه الماوردي في الأحكام السلطانية ثم قال: هذا هو السجن الذي كان في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وعهد أبي بكر – رضي الله عنه -، ولم يكن في زمانهما محبس معد لحبس الخصوم؛ ولما انتشرت الرعية، واتسعت بقعة المسلمين، وافتتحت ديار الفرس والروم في أيام الخليفة الثاني عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- اشترى داراً من صفوان بن أمية بأربعة ألف درهم، وجعلها حبس.
وذكر البخاري في صحيحه تعليقاً: وكان شريح يأمر الغريم أن يحبس إلى سارية المسجد. (فتح الباري 1/556)
وهكذا نجد أن المسجد وسيلة إصلاحية لكثير من نشازات أفراد المجتمع المسلم، ويعتمد صلاحه بالدرجة الأولى على ما فيه من إيمان وتذكير وموعظة، ولذلك يكون أكثر نفعاً وفائدة، وخيراً للمجتمع، ويبقى السؤال: متى نعيد المساجد في عصرنا تلك المكانة التي كانت تعيشها على عهد الرعيل الأول والجيل الأمثل.