(المسجد والدعوة) والمسجد مركز دعوة ومنبر توجيه، فكم نور قلوبًا وعمر أفئدةً وأزال عنها أوضار جاهلية وغبش المعاصي وانتزع منها جذور الزيغ والضلال، وجعل منها بحول الله تعالى وقوته أجيالا مؤمنة تقية نقية، مجاهدة صامدة، قانتة مطيعة، عمرت الأرض بالطاعة والخير، ونشرت الإسلام في آفاق واسعة ونواحٍ عديدة من المعمورة فكانت قرآنًا يمشي على الأرض ينير للناس مناهج الحق ويهديهم سبل الرشاد، وسيوفًا مصلتة في رقاب المتجبرين المتكبرين النافرين عن الحق، المصرين على الكفر والطغيان، ورسل هداية تغزو القلوب بالإيمان وتغرس فيها بذور التقوى، وتقاوي الإصلاح وغراس الطاعة كلها: طاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا” (سورة النساء- الآية 59).
فمن المسجد الحرام انطلقت دعوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تهز أرجاء مكة بقوه ألفاظها وسلاسة معانيها، وقوة نفوذها في الأعماق، تعرب عن صدق وإخلاص وأمانة، وتنبع من جنان عامر بالنور، دوى بها المصطفى الحبيب عليه أزكى صلاة وأفضل تسليم قائلا بعد حمد الله والثناء عليه بما هو أهله في أول خطبة خطبها بمكة حين دعا قومه: “إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا، وإنها لجنة أبدا أو نار أبدا.” (الكامل في التاريخ 2/ 40،41، والرائد: من يرسله قومه في طلب الكلأ والماء كما في الصحاح 2/ 478)
ولما أمر عليه الصلاة والسلام بإعلان نبوته، والجهر بدعوته، والصدع بالحق إذ نزل عليه قول الحكيم الخبير: “فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ” (سورة الحجر- الآية 94). ارتقى المصطفى المختار الصفا وصاح بأعلى صوته: “واصباحاه وهي صيحة يصيح بها العربي حين يحس بخطر داهم يوشك أن يحيط بقومه أو عشيرته: ثم أخذ ينادي يا بني فهر: يا بني عدي، يا بني كعب، لبطون قريش كلها حتى اجتمعوا فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال أبو لهب: تبًا لك يا محمد ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: “تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ” (سورة المسد- الآية 1) (رواه البخاري ومسلم).
أما خطبته في أول جمعة صلاها بالمدينة فأجتزئ منها هذه العبارة: “وإن تقوى الله تبيّض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة، خذوا بحظكم، ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين، فأحسنوا ما أحسن الله إليكم، وعادوا أعدائه “وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ…” (سورة الحج- الآية 78). وسمّاكم المسلمين. “لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ…” (الأنفال/ الآية42) ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفه ما بينه وبين الناس. ذلك بأن الله يقضي على الناس، ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه. الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم” (البداية والنهاية 3 / 213).
ثم كانت لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) خطب تذكر بالله وتدعو إلى حبه والتحاب فيه، والتنفير من الدنيا وبيان العلم الشرعي وفضله وبثه في الناس من جيران وغيرهم، ثم تلك الخطبة الجامعة العظيمة في حجته التي ودّع فيها الناس وأعطاهم فيها دروسًا عظيمة قيمة، تحمل وصايا كثيرة نافعة في البعد عن الظلم وترك الربا والإيصاء بالنساء وغيرها مما ينير للأمة الإسلامية في كل قرونها المقبلة طريقًا هاديًا يرضاه الله ورسوله ويفوز سالكوه بخيري الدنيا والآخرة.
وهكذا عمر خلفاؤه الراشدون الأئمة الحنفاء المهديون منابر المساجد مرشدين وموجهين ومتحسسين حاجة الأمة المسلمة إلى ما يرقق قلوبها ويوضح لها معالم الحق ويسيرها على المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك.
وسارت على هذا النمط الأجيال المؤمنة تستخدم منابر المساجد والإرشاد والتوجيه والإنذار والتحذير وبيان الأحكام، وغرس العقيدة الصحيحة، وعلاج ما في المجتمع من أدواء وعيوب، واستئصال شأنات الحقد والحسد وكل خلق ذميم، والحث على المنهج الصحيح، والسلوك المستقيم حتى يعيش المجتمع المسلم نقيًا صافيًا متوادا متراحمًا، متكاتفا متعاطفًا، يحس فرده بما يقلق جماعته، وجماعته بما يزعج فرده “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا” (رواه البخاري ومسلم).
“مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعت إليه سائر الأعضاء بالسهر والحمىْ” (رواه البخاري ومسلم).
حقًا إن منابر المساجد ورحباتها المشرقة نورت عقولا مؤمنة، ومحت بؤر شرك دامسة، خرجت دعاة مخلصين، وخطباء مفوهين، يأخذون بأزمة القلوب فصاحة ولسنا، ويمتلكون الألباب بلاغة وجزالة كلمات وروعة أسلوب، وبراءة استهلال، وحسن استشهاد، وهي في عصرنا الزاهي مدعومة بخطباء مصاقع وعلماء مبرزين تخرج جلهم في المساجد والجامعات السعودية المتخصصة بهذا الشأن. ترعاها أيد أمينة بتوجيهات رشيدة سديدة من لدن خادم الحرمين الشريفين وفقه الله وسدد خطاه، أما في مجال الدعوة وتخريج الدعاة فحدث عن المساجد ولا سيما الحرمين الشريفين ولا حرج، فقد تخرج عباقرة الصحابة ونحارير التابعين ومن بعدهم من القرون، فمعاذ بن جبل (رضي الله عنه) أرسل داعية إلى اليمن، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة إلى اليمن، وغيرهم من صحابة رسول الله الغر الميامين. وقال لابن عمه الخليفة الراشد علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): “لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم”. فصحابة رسول الله كانوا رسله إلى الآفاق يعلمون الناس دينهم ويمحقون معالم الشرك وآثار الوثنية، ومستنقعات الفجور والمعاصي الوبيئة، وتلاهم على هذا النهج الخير والدرب النير أساتذة كبار، ومشايخ أمناء في شتى العصور والأجيال فعمر بن عبد العزيز وابن حنبل والشافعي ومالك وأبو حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيميه وابن القيم وغيرهم ممن نشروا الدعوة بألسنتهم الصريحة في الحق، وكتبهم المجدية النافعة التي ملأت مكتبات العالم وأثرتها إثراء جما ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه المؤلفات وحققت فيه كتب كثيرة في شتى العلوم في البلاد الإسلامية ولا سيما جامعات مملكتنا الحبيبة ومراكزها الثرية بالمخطوطات ومعاهدها العالمية، فقد أنتجت بحوث متقنة هامة ونقحت مخطوطات كبيرة مفيدة أثرت دور العلم ومكتباته كبراها وصغراها فصارت في متناول رواد العلم وطلاب الثقافة من باحثين ومحققين ودارسين يجدونها أوفر ما تكون علما وتوثيقا وتخريجا وتصحيحا وكشفا لغوامض، وإجلاء للعويص والمغلق، وروعة في التنسيق والترتيب والإخراج ترغب المقبل على التحصيل وتشد انتباهه، وتدفعه إلى الاستزادة من العلم بنهم وشره وقوه طلع وإنتاج.
_____________________
المصدر: كتاب وظيفة المسجد في المجتمع للشيخ صالح بن ناصر الخزيم.