المشروع فعله في المسجد:
ناقشنا في الجزء الأول على بعض الأفعال المشروع والمباح فعلها في المسجد:
7 – المسجد دار للقضاء والفتوى:
ولا تقتصر مهمة المسجد في الأعمال العلمية فحسب بل اتخذه المسلمون دارًا للإفتاء والقضاء، فكانت الوفود الكبيرة المستفسرة عن شؤون دينها، والسائلة في أحكام شريعتها تفد إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم). روى البخاري وغيره عن أنس (رضي الله عنه) وكان صغيرًا، قال: “بينما نحن جلوس مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في المسجد دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي (صلى الله عليه وسلم) متكئ بين ظهرانيهم، فقال: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له رجل: ابن عبد المطلب؟ فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) : (قد أجبتك) وقال الرجل للنبي (صلى الله عليه وسلم) : إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك، فقال: (سل عما بدا لك) ، فقال: أسألك بربك، ورب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: (اللهم نعم) فقال: أنشدك بالله آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: (اللهم نعم) قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن نأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فنقسمها على فقرائنا؟ قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم نعم) ، فقال الرجل: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة، أخو بني سعد بن بكر”.
وفي الحكم والقضاء يعنون البخاري بابًا سماه: باب من قضى ولاعن في المسجد، ثم قال: ولاعن عمر عند منبر النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد، وقضى مروان على زيد بن ثابت باليمين عند المنبر، وكان الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارجا من المسجد”. (رواه البخاري)
وأورد أيضًا بابًا سماه: باب من حكم في المسجد، وأورد فيه حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) في حكمه (صلى الله عليه وسلم) على ماعز (رضي الله عنه) وهو في المسجد ما ورد بسنده إلى أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: “أتى رجل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربعًا قال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: (اذهبوا فارجموه)”.
ومثل الفتوى الصلح بين الناس، وحل مشكلاتهم، وفك نزاعاتهم، وتسوية خصوماتهم، روى البخاري رحمه الله عن كعب بن مالك (رضي الله عنه) “أنه قاضى ابن أبي حدرد دينًا كان عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف حجرته فنادى: يا كعب، قال: لبيك يا رسول الله، قال: ضع من دينك هذا، وأومأ إليه، أي الشطر، قال: لقد فعلت يا رسول الله، قال: (قم فاقضه)”.
وغير ذلك من النصوص النبوية التي تفيد أن من مهمات المسجد كونه ميدانًا للفتوى، والإجابة عن أسئلة الناس وحل مشكلاتهم وما يطرأ عليهم، ويمكن أن يقترح هنا، أن إمام المسجد يقوم بهذه المهمة الجليلة، أو تسند لأحد العلماء الذين يصلون فيه، ويرجع إليهم عند المحاكم وتبقى جهات محتسبة، وبهذا سنجني الفوائد الظاهرة الآتية:
أ- تخفيف المشكلات بعامة.
ب- تخفيف المراجعات وجهات السلطة.
ج- عدم إطالة وتعقيد المشكلات.
د- سريان روح التفاهم بين المتخاصمين.
هـ- إيجاد سبل للتعاون بين أبناء المجتمع.
و القضاء على كثير من المشكلات والمنكرات.
8 – المسجد مأوى للمحتاجين وسكن للغرباء:
لقد اشتهر في السنّة وجود مكان ملحق بالمسجد يسمى الصفة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأوي إليه من لا سكن له من الفقراء وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرعاهم، ويعطف عليهم ويهدي لهم، ويطلب لهم شيئًا من الصدقة.
فعن أنس (رضي الله عنه) قال: “قدم رهط من عكل على النبي (صلى الله عليه وسلم) فكانوا في الصفة”. وعطف النبي (صلى الله عليه وسلم) عليهم، وخصهم إياه بالصدقة أمر معلوم في السنة.
9 – المسجد مقر للشورى والالتقاء:
من المشروع المستحب في المسجد أن يجتمع فيه أهل الحي، يتشاورون فيه عما تصلح به أحوالهم، وعن المهمات الملقاة على عاتقهم، بل قد يكون أكبر من مستوى الحي إلى مستويات أعلى.
وقد كان كذلك في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأغلب مشاوراته (صلى الله عليه وسلم) كانت في المسجد، وكذا صحابته الكرام من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد، فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) أسس مسجده المبارك على التقوى، فيه الصلاة والقراءة، والذكر، وتعليم العلم، والخطب وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات وتأمير الأمراء، وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم، وكذلك عماله في مكة، والطائف وبلاد اليمن وغير ذلك من الأمصار والقرى، وكذلك عماله على البوادي، فإنه لهم مجمعًا، فيه يصلون، وفيه يساسون، كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : ” (إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء كلما ذهب نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء تعرفون وتنكرون)، قالوا: فماذا تأمرنا؟ قال: (أوفوا ببيعة الأول فالأول، واسألوا الله ما لكم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم)”، وكان الخلفاء والأمراء يسكنون في بيوتهم كما يسكن سائر المسلمين في بيوتهم، لكن مجلس الإمام الجامع هو المسجد الجامع).
10 – صيانة المسجد وتنظيفه:
من المشروع المستحب عمله في المسجد صيانته وتنظيفه، وتفقده من حيث إنارته، وتوصيل المياه إليه، وتوفير أدوات النظافة، وتوظيف من يقوم بذلك، ورعاية فرشه وتطييبه وإصلاح ما يفسد منه، ولا شك أن في ذلك أجرًا وثوابًا من عند الله سبحانه وتعالى.
روى أبو داود رحمه الله عن أنس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : “عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت علي ذنوب أمتي، فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها الرجل ثم نسيها”.
قال النووي رحمه الله: يسن كنس المسجد وتنظيفه وإزالة ما يرى فيه من نخامة أو بصاق ونحوه وهو أمر مجمع عليه، بل يرى بعض أهل العلم أن تنظيفه واجب.
ومما روي في تطييب المسجد وتبخيره ما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، عن عائشة رضي الله عنها قالت: “أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب”.
11 – المكث في المسجد:
ومجرد المكث فيه خير عظيم، وهو عمل فاضل، وإذا ما صوحب بأعمال أخرى كان أعظم وأفضل كنية الاعتكاف، وقراءة القرآن، وذكر الله تعالى، أو القيام بأعمال أخرى كالنظافة والصيانة، أو تعليم العلم ونحو ذلك.
جاء في حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) في الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: “ورجل قلبه معلق في المساجد”.
_____________________________
المصدر: كتاب المشروع والممنوع في المسجد للكاتب فالح الصغير.