المفهوم النفسي للصلاة
كي ندرك حقيقة ما تحمله الصلاة من معان نفسية بالطريقة التي فرضت بها، وبالتوقيت الذي لازمها فإننا نتجاوز بالتشبيه الحدث العظيم لبعض ما يدور في حياتنا العامة من مناسبات، والحدث هو أعظم حدث في الإسلام، وهو رحلة الإسراء والمعراج، أو رحلة التثبيت والتحقيق الكبرى، والحياة تطالعنا كل يوم بعظماء وأمراء وكبراء من أهل الدنيا يزورون بلاداً غير بلادهم بدعوة من حكامها وأمرائها، ويعود الأمير من زيارته وقد حمل معه من هدايا المكان الذي زاره بما يذكره بالمكان وأهله، وهذا ما حدث في رحلة الإسراء والمعراج، فكانت الصلاة هي أعظم هدية لرسول الله ولأمته من بعده هدية تحمل معها معاني الذكرى وآثارها – هدية تناسب قدر المُهدى ، وعطاء المُعطِى – فكانت الصلاة ختاماً لرحلة الاطمئنان الكبرى – وانتهت رحلة الإسراء والمعراج، وبقيت الصلاة تحمل حقائق تلك الرحلة وذكرياتها تحمل الاطمئنان والسكينة لمن أداها وحافظ عليها والتزم بها.
ولنتصور معاً حقيقة الذكرى، وما يصاحبها من صدق المشاعر في نفس رسولنا عليه الصلاة والسلام عندما عاد من رحلة إسرائه وحضرته أول صلاة، نزل إليه جبريل يعلمه كيفية الصلاة وأركانها، كما أرادها الله لعباده – وجبريل كان رفيقه بالأمس وهو أمامه الآن في الصلاة، يرفع جبريل يديه مكبرا فيرفع الرسول قائلاً: “الله اكبر”، في هذه اللحظة، ألم يترك رسول الله الدنيا كلها وراء ظهره ويشير إليها بظهر يديه ويقبل على الله – نعم – رسول الله ترك الدنيا وراء ظهره وذهب إلى ربه بعقله وكيانه ومشاعره ووجدانه فالوقت قريب جداً من الأمس – وما زالت الصورة ماثلة أمام عينيه – صورة المشاهد الحسية التي سمعها ورآها وما زال يعيش حلاوة الموقف وجلال المكان وما زالت الرهبة تملأ مشاعره وما زال يجد ريح الجنة ويسمع زفير النار، مع هذه الصورة الحية النابضة وصوت جده آدم وأبيه إبراهيم وأخيه موسى وهارون وإدريس ويوسف وعيسى كل هذا ما زال يطرق سمعه، مع هذا كله هل يبقى للدنيا في نفس رسولنا صلى الله عليه وسلم أو في عقله أي شيء كان؟ إنه بكل ما تعني الكلمة ذهب إلى ربه يحمده ويمجده، يسبحه ويدعوه ويناجيه ويرجوه، وهل الصلاة غير هذا؟ – هذه هي الصلاة، رحلة مع الله، ولهذا بقيت أسرار الصلاة في حقيقتها كما أرادها الله لرسوله وللمؤمنين برسالته. صلة بين العبد وربه- صلة تتجدد ولا تتبدد.- رحلة لا تنقطع خمس صلوات في اليوم والليلة – وخمسون في الأجر ترغيبا فيها.
“قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين” (الأنعام: 162 – 163)
وقال تعالى:
“بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. إياك نعبد وإياك نستعين. اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.” (الفاتحة : 1-7)
هل من شك في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حضرته أول صلاة ارتفع إلى ملكوت ربه ارتفاع هذه المعاني من سورة الفاتحة- أنه ارتفع بها بفكره إلى حيث هي حقيقة صادقة – أليست هذه المعاني كلها حقائق مجسدة وغيبا معلوماً في مفاهيم رسولنا وفي سمعه وبصره؟
والعبد إذا صدقت منه العبادة، ووقف أمام الله موقف العبد من المعبود – الواثق من وعده الخائف من وعيده – هل يبقى للدنيا معه شأن ، وهل تبقى في فكره وحسه ؟ وإذا كان هذا حال العبد، فما هي حقيقة مشاعر رسولنا وقد انكشفت أمامه حجب الغيب، وهو الآن يقف أمام ربه حامداً عابداً ممجداً مناجياً.
أنه يرتفع بفكره ووجدانه إلى السماء، حيث رأى من آيات ربه الكبرى، وذاق حلاوة اللقاء وعاش لحظات من القرب والود – لحظة منها خير من الدنيا ولو اجتمعت في يده- إنه مع ربه بفكره وعقله – بنفسه وروحه، بمشاعره وعواطفه بل بكيانه ووجدانه فليس للدنيا في هذه اللحظات معه شأن ولا شأن له بها – إنه في لقاء مع ربه إنه الاطمئنان الكامل الذي يعيشه اليوم إحساساً وقد ذاقه بالأمس يقينا وإيمانا – فهل يسهل علينا الآن أن نتفهم حقيقة حديث أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) وهي تقول: “كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يكلمنا ونكلمه – فإذا حضرت الصلاة فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه”. (رواه البخاري)
وهل تتسع بنا المفاهيم لندرك صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يقول: “وجعلت قرة عيني في الصلاة”. (رواه النسائي) فإذا قال صلى الله عليه وسلم: “يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها” (سنن أبو داود)، فإن المعنى النفسي يزيد اتساعا، فتكون الصلاة راحة من عناء الدنيا وضيق ما فيها إلى اتساع رحمة الله وفضل عطائه وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وبهذا تزداد المعاني النفسية اتساعاً، وتصبح الصلاة في عمق معناها صلة بالله، والتجاء إليه، ثم يأتي قول ربنا سبحانه في سورة البقرة: “واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين”. (البقرة: 45)
فتفيض المعاني وتغدق، هذه حقيقة الصلاة عندما تصدق لقاء مع الله – التجاء إليه – استعانة به – اطمئنان، وتصبح الصلاة في عمق أدائها، وسيلة تعبدية تصل بها النفس إلى حقيقة الاطمئنان النفسي وصدق ربنا سبحانه وهو يقول في سورة الرعد:
“الذين أمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب”. (الرعد: 28)
وكل مظاهر الصلاة توقيفية وليس للبشر تدخل في نظامها الحركي بما فيه من قراءة وتسبيح، وهي نظام ثابت محكم تبدأ بالتكبير وتنتهي بالتسليم فقد نزل بها جبريل وعلمها لرسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم).
________________________________________________
المصدر: كتاب الصلاة وأسرارها النفسية بالمفاهيم السلوكية المعاصرة.